كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا نرى أنه لا يوجد إنسان يستمتع بالمواهب المكتملة. بل هو يتقن شيئًا ولا يتقن أشياء، ولكن مجموع مواهب كل إنسان، تساوي مجموع مواهب كل إنسان آخر.
والعدل الإلهي يتدخل هنا، فنجد- على سبيل المثال- الرجل الغني الذي يأكل خبزًا من الدقيق الأبيض الفاخر، يم يأتي عليه وقت من الأوقات لا يستطيع أن يأكل إلا الدقيق الأسود أو السّن. وتجد من يسرف في الطعام؛ لابد أن يأتي عليه وقت ويحرمه الأطباء من الطعام؛ لأنه أخذ منه أكثر من حقه. وتكون صحته في أن يُحرم. والحق سبحانه وتعالى وضع نظامًا كونيًا يتساند فيه الجميع؛ لكي يلتحم الجميع. فأنت تحتاج لي فيما أتقنه وأنا أحتاج إليك فيما تتقنه، وهكذا يتساند الناس ويتكون المجتمع السليم.
ولذلك يقال: الناس بخير ما تباينوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا وأصبحوا أصحاب موهبة واحدة أو عمل واحد لفسد الكون، كأن نكون كلنا قضاة مثلًا، فمن الذي يعالج المريض؟ ومن الذي يحفر الأرض؟ ومن الذي يحمل الطوب؟ ومن الذي ينظف الطريق؟ إننا لو تشابهنا في الموهبة أو الثراء أو العمل فلن نجد أحدًا يقوم بهذه الأعمال؛ لأننا لو كنا كلنا أطباء أو مهندسين أو صيادلة أو قضاة أو مشرعين لما استطعنا أن نعيش، بل لابد أن نختلف لأكون أنا محتاجًا لك وأنت محتاج لي. وبذلك يتماسك المجتمع، وتُقضَى مصالح الكون بسبب الحاجة، وليس بالتفضل بين الناس.
ويصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم: {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} فإذا فعل مؤمن منكرًا؛ جاء أخوه المؤمن فنهاه عنه، وإذا لم يفعل معروفًا جاء أخوه المؤمن وأمره بالمعروف وكل واحد منا ناهٍ عن منكر، ومنهي عن منكر.
وأنت لا يمكن أن تأمر بمعروف وأنت تفعل عكسه، أو أنت بعيد عنه، فلا يمكن أن تكون في يدك كأس من الخمر؛ ثم تطلب من إنسان آخر يمسك كأس خمر أن يحطم الكأس التي في يده، لا يمكن إذن أن تنهي عن منكر وأنت تفعله؛ والذي يأمر بمعروف لابد أن يكون فاعله، والذي ينهى عن المنكر لابد أن يكون بعيدًا عنه. فكل مؤمن آمر ومأمور بالمعروف. وناهٍ عن المنكر.
ويضيف الحق وصفًا للمؤمنين: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة} وإقامة الصلاة هي إعلان الولاء للخالق الأعلى، ومن له ديمومة لا نهاية لها. والمؤمنون أولياء بعض، ولكن مَنْ وليُّهم جميعًا؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولابد أن يلتحموا بمنهج الولي الأعلى الذي لا نستغني عنه يومًا.
والله سبحانه وتعالى حين وصف المؤمنين أولياء بعض، قال لنا: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ...} [محمد: 7].
إذن: فلابد أن نتجه جميعًا إلى الوالي الكبير. فهو سبحانه فوق أسبابنا، وفوق قوتنا وهو الذي ينصرنا إنْ عزَّتْ ولاية الأفراد المؤمنين لبعضهم البعض، فنلجأ للولي الكبير. وما دامت الولاية لله الحق، فلابد أن نستديم في ولائنا له سبحانه وتعالى.
واستدامة الولاء لا تكون إلا بالصلاة. وساعة تسمع المؤذن يقول: الله أكبر تسرع إلى الصلاة. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى- وهو ربك وصانعك ووليك- قد دعاك إلى الصلاة، فلابد أن تجيب الدعوة.
فإذا أحببت أن تزيد على الصلوات الخمس وتكون في معية الله دائمًا فافعل، بعد أن تكون قد أدَّيْتَ ما فرضه سبحانه عليك من خمس صلوات في اليوم الواحد، وحين تُعْرَض الصنعة على صانعها خمس مرات كل يوم ففي هذا صلاح الإنسان. وأنت إنْ جئتَ بأي آلة وجعلتَ المهندس الذي صنعها يراها كل يوم خمس مرات فلن تعطب أبدًا.
كذلك الإنسان وهو صنعة الله، إذا عرض نفسه على الله خمس مرات كل يوم فإن العطب لا يدخل إلى نفسه. والصانع من البشر حين تعرض عليه الآلة فيصلحها بماديات، سواء كان باكتشاف نقص في الوصلات الكهربية أو كسر في أي شيء، فالمادة تصلح بالمادة، ولكن الله سبحانه غيب، ولذلك فهو يصلحنا بالغيب، فلا تعرف ماذا فعل بك وأنت واقف أمامه تصلي. لكنك تشعر بلا شك أن شيئًا فيك قد انصلح.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر- أي كان هذا الأمر فوق طاقته- قام إلى الصلاة؛ لأن أسبابه لم تستطع أن تفعل شيئًا فيتجه إلى المسبب، ويقف بين يديه؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الحل. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: أرحنا بها يا بلال كأن الراحة بها، أي اجعل ملكاتنا تعتدل بالصلاة.
لذلك كان لابد أن يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة} لأن الصلاة استدامة الولاء لله، والحق تبارك وتعالى يريدنا أن نكون موصولين به سبحانه، وهذه الصلة تتم بالصلاة فرضًا خمس مرات في اليوم، وترك سبحانه الباب مفتوحًا لتطوعك، فلا تترك ساعة تستطيع أن تكون فيها بين يدي الله إلا فعلت.
ولكي تعرف الفرق بين سيادة الله وسيادة البشر، فإنك إذا ضعفت أٍسبابك أمام شيء، فإنك تطلب أن تقابل من هو أعلى منك مركزًا، فهو يملك أسبابًا لقضاء حاجتك، فإذا طلبت مقابلته قد يقول نعم، وقد يقول لا.. فإذا قال نعم، يسألك عم ستتكلم فيه.. فإذا قلت: إنك ستتكلم في كذا، حدد لك الساعة واليوم والمكان ومدة المقابلة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يفعل هذا. أنت تذهب له في أي وقت تشاء، وفي أي مكان تشاء، وتتكلم فيما تريد، وهو سبحانه لا ينهي المقابلة أبدًا، أنت الذي تنهي المقابلة مع ربك.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمل الله حتى تملوا».
والحق جل جلاله لا يشغله شيء عن شيء؛ ولذلك فهو يقابل كل عباده في وقت واحد، ويستمع إليهم في وقت واحد، ويُجيبهم إلى ما يطلبون في وقت واحد.
ويقول سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة} والصلاة تأتي مع الزكاة باستمرار؛ لأن في الصلاة استدامة ولاء لله المعطي، وفي الزكاة استبقاء حياة من يستحق أن تعطيه، فأنت تعطيه لتستبقي له حياته فيواصل الولاء لله معك؛ لأنه لا ولاء إلا بحياة، وأنت تساعده على استبقاء هذه الحياة؛ ولأن الزكاة إعطاء مال للفقير، والمال يأتي بالعمل، والعمل يحتاج إلى وقت، إذن: فأنت ضحيت بجزء من وقتك لتتصدق به، وفي الصلاة ضحيت بوقتك في أوقات محددة.
وفي الأوقات التي تعمل فيها هناك استدامة الولاء، بأن تخصص جزءًا من أثر هذا الوقت للزكاة، فلا يكون كل وقتك للعمل، وإنما يكون وقتك فيه عمل وفيه عبادة، فحين تخصص جزءًا من مالك الذي سيأتيك من العمل للزكاة تكون قد زكَّيت الوقت بالصلان، وزكيت المال بالعطاء.
ويقول الحق: {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ}. وقد ذكر الحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذه كلها طاعة لله بإقامة أركان الإسلام، فلماذا يقول سبحانه: {وَيُطِيعُونَ الله}؟
نقول: الله سبحانه ينبهنا إلى أن أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليع سبيلًا، هذه الأركان ليست هي كل الإسلام. بل هي القواعد التي بُني عليها الإسلام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس».
إذن: فهذه هي الأعمدة أو الأسس التي بُني عليها الإسلام. ولكن الإسلام هو كل حركة في الحياة تصلح ولا تفسد، وتسعد ولا تشقي، ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن نفهم أن الإسلام ليس فقط بالأسس التي وضعت، ولكن لابد من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا به في كل حركة الحياة.
وحركات الحياة كلها متكاملة، وإذا نظرت للشيء الذي تستفيد به تجده وليد حركات متعاقبة ممن سبقوك حتى آدم عليه السلام، فإذا أخذنا أبسط الأشياء وهي وضع خميرة في عجينة الخبز؛ وكيف عرفنا هذا؟ نجد أننا أخذناها جيلًا عن جيل. والذي بدأها ألهمه الله بحادث يقع أو بخطأ يتم إلى أن وصل إلى قيمة وضع الخميرة في العجين ليكسب الخبز طعمًا، ومعظم مبتكرات الحياة قد أتت بالصدفة أو نتيجة أخطاء. فالبنسلين- على سبيل المثال- اكتُشِف نتيجة خطأ. وقاعدة أرشميدس التي بنيت عليها نظريات الغواصات اكتشفت نتيجة ملاحظة ألهمها الله لأرشميدس. وحين يأتي ميلاد كشف جديد للبشرية، فسبحانه يهدي خلقه إلى هذا الكشف ولو كان بخطأ يقع منهم.
ومثال آخر: ما الذي جعلك تفهم أن اللحم حين ينضج على النار أو يُشوى يكون طعمه أحلى؟ ما الذي جعلك تطهو بعض أنواع الخضراوات ولا تطهو أنواعًا أخرى.
كل هذا هدانا إليه الله.
{الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 2-3].
إذن: فكل ما ننتفع به في حركة الحياة، قد أتانا من أجيال مضت؛ ولذلك من يأتي ليقول: سأنقطع للعبادة صلاة وصومًا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
نقول: سنوافقك على انقطاعك للصلاة والصوم فقط. ولكنك لكي تصلي؛ أنت تحتاج إلى طعام يعطيك القوة والقدرة لتصلي وإلا فسيستحيل عيلك أداء الصلاة. هَبْ أنك ستأكل رغيفًا من الخبز فقط، من أين تأتي بهذا الرغيف؟ من البقال. ومن أين أتى به البقال؟ من المخبز. ومن أين جاء المخبز بالدقيق؟ من المطحن. ومن أين جاء المطحن بالقمح؟ من مخزن الغلال. ومن أين جاء المخزن بالقمح؟ من المزارع. والمزارع أتى بمحاريث وآلات من المصانع لكي يحرث الأرض، وجاء بآلات لكي يسقي.
إذن: فأنت لا تستطيع الانقطاع للعبادة إلا إذا استنفدْتَ بحركة غيرك، وكل عمل ذكرت فيه الله هو عبادة، وكل حركة في الحياة تعينك على أداء العبادة هي عبادة.
ومثال آخر: لكي تصلي لابد أن تستر عورتك في الصلاة، إذن: فأنت تحتاج إلى قماش تأتي به من التاجر، والتاجر أتى به من مصنع النسيج، ومصنع النسيج أتى به من مصنع الغزل، ومصنع الغزل أتى بالقطن من المحلج، والمحلج جاء به من الحقل، والحقل جُنِّدَتْ له معامل الدنيا ليعطيك أوفر محصول، ويقي القطن مكن الآفات. كل هذه من حركات الحياة التي مكَّنتْكَ أن تستر عورتك في الصلاة، وكل منها عبادة.
إذن: كان من الضروري أن يقول: {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ}. بعد {وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة}.. فبعد أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة عليهم أن يطيعوا الله في الإسلام الذي بني على هذه الأركان.
ثم يقول الحق: {أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} وأولئك إشارة إلى كل المؤمنين والمؤمنات الذين هم أولياء بعض، والذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة، والذين يؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، هؤلاء سيرحمهم الله. وأيهما أبلغ: أن يقال أولئك يرحمهم الله، أو يقال سيرحمهم الله؟
الأبلغ أن يقال: {سَيَرْحَمُهُمُ الله} لأن السين تهتك ستار الزمن؛ وبذلك يحيا المؤمن دائمًا في رحمة الله التي لا تنقطع.
ولذلك حكى الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات فقال: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} [مريم: 96].
أي أن الود سيكون مستمرًّا، حتى لمن استمع إلى هذه الآية ثم مات، إنه أيضًا ينتفع بود الله. وأيضًا قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5].
ولم يقل: يعطيك ربك، بل جاء بـ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} لترى عطاء الحق مستمرًّا.
وأنت حين تهدد أحدًا لا تقل له: أنا أنتقم منك، بل تقول: سأنتقم منك، أي: أن الانتقام سيستمر مع الزمن.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {سَيَرْحَمُهُمُ الله} تعطي أن صفة الرحمة في حق الله سبحانه أعلى من صفة الرحمة في المخلوق؛ لأن التراحم من الخلق على قدر الأسباب، أما الرحمة من الحق سبحانه فتكون بصفات الكمال التي لا تتناهى ولا تنتهي. ومن الرحمة ألا يقع داء، والشفاء أن يوجد داء فيشفى؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ...} [الإسراء: 82].
والاثنان يؤديان إلى سلامة المجتمع من الأمراض الاجتماعية التي تُشْقي الإنسان، وهناك سلامة من أول الأمر. وهناك سلامة ليست من أول الأمر. ومن عنده خصلة سيئة- وهي داء- يشفيه منها القرآن، أما الرحمة فهي ألا يأتي داء ابتداء، ولذلك فالرحمة ممتدة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ومعنى عزيز: أنه غالب على أمره، وما يريده يقع؛ ولا يُغلب. ولكن إياك أن تفهم أن ذلك عن جبروت ظالم، لا؛ لأنه سبحانه لا يظلم أحدًا، ولأنه عزيز بحكمة. وهناك عزيز بلا حكمة، تغريه عزته أن يطغى. لكن الله عزيز حكيم، وعزته ليس فيها ظلم ولا طغيان، ولكنها بحكمة إلهية. اهـ.